كاتب ومقال

دار في خاطري| تحية للغتنا العربية

أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
من بين المئات والآلاف اصطفاها العزيز القدير لتكون لغة الكتاب المبين، فكفاها شرفا أن تصان في اللوح المحفوظ، فكفاها شرفا أنها لغة خاتم الأنبياء والمرسلين، فكفاها شرفا أن يتعبد بها المسلمون حين يقفون بين يدي الله خمس مرات يومياً، إنها اللغة العربية.

لقد كرم الله اللغة العربية فأرسل رسولنا الصادق الأمين بلسان عربي مبين، وأنزل عليه قرآنا عربيا فيفوق كل ما كتبه وقاله العرب بلغتهم التي برعوا فيها، فتكون تلك هي المعجزة، ومن ثم تتأسس أسس الدين الإسلامي بها، فتنطلق من نواتها في شبه الجزيرة العربية إلى شتى بقاع الأرض حيث تكون الدعوة الإسلامية، فتصير لسان المسلمين في كل زمان ومكان.

ثمانية وعشرون حرفاً شكلت ملايين الكلمات المختلفة، والمتشابهة، والمشتبهة، مترادفات وتضادات، مفردات، وجموع، فتشكل لغة ثرية قوية بليغة، يستحيل للسابح في بحورها ألا يجد درته المنشودة، فإذا نظم شعرا ونثرا أتته استعارات يقصدها، وجاءه السجع يطربه فيشهد المداد بميلاد نصا مبهرا من بنات الأفكار، وإذا سطر قصصا ومقالات تهافتت إليه الكلمات تتلألأ كاللؤلؤ في أصدافه، فيجمعها فيشكل عملا أنيقا متكاملا كعقد نُظِمَ بعناية فلن تنفرط حباته.

إن جمال اللغة العربية لا ينحصر في كلماتها، ومعانيها بل أيضا في شكلها الذي برع العرب في كتابتها وابتكار خطوطها، فتتعدد خطوطها ما بين نسخ، ورقعة، وكوفي، وثلث، وفارسي، وديواني، فتشكل زخارف الخط العربي التي تلهم الفنان فيبتكر ويبدع لوحات رائعة، ألم ترى يوما لفظ الجلالة كتب بخط جميل في لوحة فنية بديعة؟ ألم ترى يوما “بسم الله الرحمن الرحيم” على شكل طائر بديع؟ وغيرها الكثير والكثير.

إن لغة الضاد صاحبة ذاك الحرف الذي يميزها عن سائر اللغات، فهو لا ينطق في سواها، هي لغة مشرفة، مكرمة، مميزة عن غيرها شكلا ومضمونا، خصها الله لكتابه وأكده في آيات عدة، وإن الإنسان العربي المسلم يعي ذلك جيدا، لذا فيتبادر إلى الأذهان سؤالا محيرا وهو لماذا يتنصل بعض البشر من هذه اللغة وكأنها شيء لا يليق برقيهم الإنساني؟!

أجل! إن من الظواهر الغريبة التي ظهرت وازدادت في تلك الأيام أن تجد المرء يلجأ إلى لغات أخرى ليتحدث بها كي يضفي على نفسه لمسة من رقي وتحضر، أو يطعم لغته العربية أو بالأحرى لهجته العامية بلغة أجنبية أو يزيد كي يظهر بمظهر المتعلم المثقف، وكأن لغته العربية شيئا يحط من قدره، وينقص من إنسانيته، فترتب على ذلك وجود أطفالا لا يتحدثون العربية إلا القليل، بل إنهم لا يفهمونها، فعلى سبيل المثال قد تصادف طفلا يقف متحيرا في اختيار لعبة من بين اللعب، فتجد البائع يسأله: هل ستختار الكرة؟ أم السيارة؟ وعلى الفور تقوم أمه بإعادة السؤال عليه ثانية بعد ترجمة كلمتي “كرة” و”سيارة” إلى اللغة الإنجليزية!!

وعندئذ تنهمر الأسئلة على ذهنك كالسيل الجارف، فتتساءل كيف يصلي هذا الطفل؟! فيليه سؤال هل يصلي بالفعل؟! وإن كان كذلك فهل يحفظ سورا من القرآن؟! وإن كان يحفظها فهل يفهمها؟! أم أنه يردد كببغاء لا يعي ما يقول؟! وماذا يعني له القرآن؟! وماذا تعني له اللغة العربية؟! وكيف ينظر إلى المتحدثين بها؟! أسئلة سرمدية لا نهاية لها.

لعل ما يحدث يرجع إلى بعض الأمور منها أسلوب معلم اللغة العربية في تدريس هذه اللغة بطريقة جافة لا يتقبلها الطالب فيشعر بأنها لغة عسيرة فيستبدلها فيما بعد بأخرى يسيرة من وجهة نظره، وربما يرجع السبب للتكنولوجيا الحديثة التي ساعدت في انتشار اللغات الأخرى، وحصرت اللغة العربية في نطاق محدود، فمثلا إذا نظرت إلى مواقع التواصل الاجتماعي فقلما تجد اللغة العربية الصحيحة، فإذا نظرت إلى تدوينات العرب ستجد على الأغلب لهجات عامية، أو لغة عربية ركيكة تفتقر إلى البراعة والإبداع.

وبالإضافة إلى ذلك العلوم التطبيقية تلك التي تدرس في المدارس والجامعات باللغة الإنجليزية، فتجدها تحوي مصطلحات ومفاهيم اعتاد مستخدموها استخدامها بلغة منشأها، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالا وهو لماذا لم يتم نقل وترجمة تلك العلوم إلى اللغة العربية؟! فإذا نظرنا إلى الأوروبيين في العصور الوسطى حين التقوا بعلوم العرب المسلمين لم ينقلوها إلى بلادهم، ويدرسونها لأبنائهم بلغة منشأها كما فعلنا نحن، بل قاموا بترجمتها للحفاظ على لغاتهم، وسهولة تعلمها والإضافة إليها، فهيا تخيل معي ماذا يحدث إذا حدث العكس الآن وتم ترجمة تلك العلوم إلى اللغة العربية؟! فلابد من حدوث طفرة جديدة يتغير على إثرها الكثير.

ويبقى السبب الأهم في الابتعاد عن اللغة العربية وتفضيل اللغات الأخرى عليها هو البعد عن تراثنا الإسلامي العربي، فإن في إحيائه أفضل إحياء للغة العربية.

لقد آن الأوان لكي تعود للغتنا العربية مكانتها بين اللغات، لقد حان الوقت ليفتخر كل عربي صغير وكبير بلغته، ويكفيه شرفا وفخرا أنه يتحدث بها، فهي أفضل اللغات، وهذا لا يعني عدم تعلم اللغات، بل لابد أن تكون اللغة العربية هي حقا اللغة الأم.

فتحية إلى لغتنا العربية، فإذا أردت تحية لغتنا بعبارة تحمل جميع حروفها فلا أجد أفضل من خاتمة سورة الفتح لتكون أفضل تحية وأفضل ختام بسم الله الرحمن الرحيم ” مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)” صدق الله العظيم

بقلم:
ريم السباعي

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى