ولا في الخيال| الفارس صلاح عبد الصبور

في حي شعبي قديم بالقاهرة، حيث تتشابك حكايات الماضي مع صخب الحاضر، ولد صلاح عبد الصبور، لم تكن طفولته هادئة تمامًا، بل كانت مزيجًا من الفضول الجامح تجاه العالم ورقة وحساسية تستقبل كل نبضة ألم وفرح حوله. كان يهرب من ضجيج اللعب إلى زوايا هادئة في البيت أو المكتبة الصغيرة القريبة، حيث يلتهم بشغف قصص الأبطال وأشعار العصور الذهبية.
كبر صلاح والشعر يكبر معه، لم يكن مجرد قافية ووزن، كانت عيناه وعقله نافذة يطل منها على روحه المعذبة وتساؤلاته الوجودية. في زحام المدينة الصاخب، كان يشعر بغربة عميقة، كأنه روح شفافة تحاول أن تتجسد في عالم مادي خشن. هذه الغربة، هذا البحث الدائم عن المعنى، تسرب إلى كلماته، فجاء شعره مثقلاً بالأسئلة، حائرًا بين الإيمان والشك، بين الحلم والواقع المرير.
في مقهى “ريش” الشهير، حيث يلتقي المثقفون والفنانون، كان صلاح يجلس لساعات، يحتسي قهوته الداكنة ويراقب الوجوه العابرة. كانت هذه الوجوه، بكل ما تحمله من قصص وأسرار، وقودًا لشعره. كان يرى في عيني عامل بسيط كفاح العمر، وفي ابتسامة عابر حنينًا دفينًا. لم يكن شعره برجًا عاجيًا، بل كان مرآة تعكس نبض الشارع وهموم الناس.
“أحلام الفارس القديم” بزغت كلماتها الأولى في تلك الأجواء المشحونة بالتفكير والتأمل. كانت قصيدة طويلة، ملحمية، تستكشف يأس الإنسان الحديث، بحثه عن البطولة الضائعة في عالم فقد بريقه. كلماتها كانت كسهام تخترق جدار الصمت، تطرح أسئلة جريئة عن العدل والحرية والوجود.
لم يكن صلاح شاعرًا تقليديًا. كسر القوالب، جرب أشكالًا جديدة، أدخل العامية إلى شعره ليجعله أقرب إلى لغة الناس، أكثر صدقًا في التعبير عن معاناتهم. كان يؤمن بأن الشعر يجب أن يكون صوتًا للذين لا صوت لهم، مرآة تعكس حقيقتهم دون تجميل أو تزييف.
لكن هذه الصراحة، وهذا العمق في الرؤية، لم يأتِ بسهولة. كان صلاح يعاني، يناضل مع كلماته، يمضي ليالي طويلة يصارع الأفكار المتزاحمة في رأسه. كان الشعر بالنسبة له ليس مجرد حرفة، بل هو شكل من أشكال الوجود، طريقة للتصالح مع الذات والعالم.
في سنواته الأخيرة، بدا وكأنه يحمل عبء العالم على كتفيه. كان يشعر بالمرارة تجاه الخيبات والانكسارات التي رآها حوله. لكن حتى في لحظات يأسه، لم تنطفئ جذوة الأمل في شعره تمامًا. كانت هناك دائمًا بصيص من نور، دعوة خافتة للتمسك بالإنسانية رغم كل شيء.
رحل صلاح عبد الصبور جسدًا، لكن شعره بقي حيًا، يتردد صداه في أجيال جديدة من القراء والكتاب. كلماته، التي نبعت من قلب مرهف وعقل ثاقب، لا تزال تضيء دروبنا المظلمة، تطرح علينا الأسئلة نفسها التي عذبته، وتذكرنا دائمًا بضرورة البحث عن المعنى والجمال حتى في أقسى الظروف. لقد ترك لنا إرثًا من الشعر الصادق الذي يلامس الروح، شعرًا يشبه حياته تمامًا: مليء بالشغف والألم والتساؤل الدائم