رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| الاستثمار المنتج لا المُريح.. لماذا لا نصنع ما نستهلك؟

في كل مرة نواجه فيها أزمة اقتصادية أو ضغطا على العملة الأجنبية ، يتردد السؤال ذاته: لماذا لا نصنع ما نستهلك؟ والسؤال في حقيقته ليس عتابا بقدر ما هو استدعاء لفرصة ضائعة ، لم نغتنمها بعد ، رغم أنها أمام أعيننا كل يوم.
لسنا بلدا فقيرا في الموارد ولا عاجزين عن التعلم أو العمل ولا نعيش في عزلة عن العالم. نحن فقط اعتدنا اختيار الطريق الأسهل: الاستيراد بدل التصنيع ، الاستهلاك بدل الإنتاج والاستثمار في المُريح لا في المنتج.
الاستثمار المُريح هو الذي يجلب العائد السريع دون مخاطرة كبيرة: عقار، مضاربة، تجارة في السلع المستوردة. أما الاستثمار المنتج ، فهو ما يتطلب تخطيطا، وقتا، أيدي عاملة، والتزاما طويل الأجل. لكنه وحده القادر على خلق القيمة وتوفير العملة، وتشغيل المصانع، وتوظيف الناس، وتحقيق السيادة الاقتصادية.
في لحظات التحول الكبرى لا تنجح الدول إلا حين تتخذ القرار الأصعب. أن تختار الصناعة والزراعة والتكنولوجيا لا أن تظل أسيرة لفكرة «الاستيراد أرخص». فالتكلفة الحقيقية للاستيراد لا تظهر في الفاتورة وحدها، بل في البطالة وعجز الميزان التجاري، وتآكل العملة، والاعتماد المزمن على الخارج.
انظر حولك. الدول التي صنعت قفزات اقتصادية في العقود الأخيرة – من فيتنام إلى تركيا، ومن البرازيل إلى إثيوبيا – لم تنطلق من الثروة بل من قرار وطني: أن نصنع لا أن نكتفي بالشراء.
اليوم مصر تملك فرصة ذهبية لن تُتاح كثيرا:
بنية تحتية تم تحديثها،
طاقة كهربائية مستقرة،
سوق ضخم محلي وإقليمي،
واحتياج ملح لتقليل الواردات وزيادة التشغيل.
لكن هذه الفرصة لا تكتمل إلا بتغيير العقيدة الاقتصادية: نريد مستثمرا يُنشئ مصنعا، لا مولا. يُشغل مئة عامل لا يربح في صمت.
نحتاج كذلك إلى إعلام يدعم ثقافة المنتج المحلي ومجتمع يُعلي من قيمة الصانع لا المستورد ، ونظام مصرفي يُسهّل تمويل المشروعات الإنتاجية لا يطاردها بالضمانات.
وهذا لا يعني استبعاد الاستثمار في الخدمات أو العقارات بل يعني أن نُعيد التوازن بين ما هو مُربح للفرد وما هو مُفيد للوطن. أن نُشجع كل من يزرع، يصنع، أو يُنتج، لأن هؤلاء هم من يحملون الاقتصاد على أكتافهم.
إن تحوُّلنا إلى مجتمع منتج لن يحدث بقرار واحد ولا في عام واحد لكنه يبدأ من سؤال بسيط نواجه به أنفسنا:
لماذا لا نصنع ما نستهلك؟
والإجابة ليست في الموانئ بل في العقول والإرادة والسياسات.
إذا أردنا أن نُخفف الضغط عن الجنيه ، وأن نُشغّل شبابنا، وأن ننافس في أسواق العالم فلا طريق أمامنا سوى أن نصنع. لا نُقلّد، بل نُبدع. لا نستهلك، بل ننتج.
لقد آن أوان الاستثمار المنتج. آن أوان أن نُعيد بناء اقتصاد حقيقي ، لا اقتصادا يُدار بالحسابات البنكية فقط، بل بالآلات والمصانع، وسواعد الناس.