رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| الطاقة النظيفة.. سباق عالمي ومصر في قلب المضمار
بقلم: شحاته زكريا

في عالمٍ يتغير بسرعة الضوء لم يعد الحديث عن الطاقة النظيفة رفاهية فكرية أو نزعة بيئية عابرة بل أصبح معركة وجود تفرضها حقائق الأرض والسماء وتكتبها أرقام المناخ ومؤشرات الاقتصاد. العالم اليوم يقف أمام سباق كوني عنوانه: من يمتلك طاقة المستقبل ، يمتلك المستقبل نفسه.
وفي قلب هذا السباق تقف مصر كمتابعة للأحداث بل كصانعة لمسار جديد وحالفة عَلَنا أنها لن تتأخر عن ركب الأمم ولن تترك أبناءها خارج دائرة التقدم مهما اشتدّت التحديات.
من يتأمل خريطة العالم يدرك أن القوة لم تعد في السلاح وحده ولا في المال وحده بل في القدرة على إنتاج طاقة نظيفة مستدامة تُنشئ اقتصادا قادرا على الحياة دون أن يدفع الكوكب ثمنا فادحا. ولهذا تتصارع الدول الكبرى اليوم على الشمس والرياح والهيدروجين الأخضر كما كانت تتصارع قديما على طرق التجارة والنفط. غير أن المفاجأة التي لم يتوقعها كثيرون هي أن مصر استطاعت—وسط هذا الضجيج—أن تبني لنفسها مقعدا متقدما لا بمجرد التصريحات بل بالإنشاءات والاستثمارات والتحولات الكبرى التي غيّرت معادلة الطاقة داخل البلاد.
لنقف أمام حقيقة واضحة: قبل سنوات قليلةكانت مصر تُعاني من عجز كهربائي يرهق البيوت والمصانع. أما اليوم فقد أصبحت دولة لديها فائض إنتاج وتطمح إلى أن تكون مركزا إقليميا للطاقة ليس فقط التقليدية بل الطاقات المتجددة. ما حدث لم يكن صدفة بل مشروع دولة آمنت بأن السباق لن ينتظر المترددين وأن العالم يتجه نحو مستقبل لا مكان فيه من دون مصادر نظيفة.
تبدو قصة مصر مع الطاقة النظيفة واحدة من تلك الحكايات التي تبدأ بخطوة صغيرة لكنها تحمل إصرارا كبيرا. من هنا بدأ مشروع بنبان في أسوان الذي تحول إلى واحد من أكبر تجمعات الطاقة الشمسية في العالم. لم يكن مجرد ألواح شمسية تمتد إلى الأفق بل كان إعلانا أن مصر قادرة على الدخول إلى الحلبة بكل ثقة. بنبان لم يوفّر كهرباء فقط ، بل قدّم نموذجا جديدا للشراكة بين الدولة والمستثمرين وجذب شركات دولية وأسهم في خلق مجتمع كامل من فرص العمل والتدريب والخبرة.
لكن مصر لم تقف عند الشمس. فالهيدروجين الأخضر—ذلك الضيف الجديد على طاولة العالم—وجد لنفسه موقعا في الموانئ والمناطق الصناعية المصرية. والآن، تدور في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس حركة لا تهدأ من توقيع الاتفاقيات وبناء المشروعات التي تستهدف إنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء. العالم يسابق الزمن للوصول إلى هذا المورد ومصر تقول بثقة: “لسنا خارج الصورة”.
الأمر يتجاوز الطاقة نفسها ليصل إلى فلسفة أعمق: كيف تبني مصر اقتصادا قادرا على المنافسة وسط عالم يتمدد فيه التغيير بلا رحمة؟
الإجابة تكمن في إدراك القيادة السياسية أن الاقتصاد الحديث ليس مجرد أرقام أو بنية تحتية بل رؤية شاملة تستوعب التحولات العالمية. ولأن الطاقة المتجددة هي لغة المستقبل دخلت مصر إلى السباق ليس لتكون مجرد دولة منتجة بل لتصبح نقطة التقاء بين أوروبا وأفريقيا وآسيا في شبكة الطاقة النظيفة.
وحين تعلن مصر عن خطط لربط كهربائي مع اليونان وقبرص وإيطاليا فهي لا تفكر في تصدير الكهرباء فقط بل في تصدير الاستقرار. ففي عالم يتخوف من الحروب والصراعات على مصادر الطاقة تصبح الدولة القادرة على توفير طاقة نظيفة وآمنة شريكا مهما لأي تحالف اقتصادي.
ومع ذلك يبقى السؤال الأهم: لماذا كل هذا الإصرار من الدولة المصرية على الاستثمار في الطاقة النظيفة؟
الجواب ببساطة لأن العالم يتغيّر بطريقة تفرض على الدول أن تُجدد مصادر قوتها. والطاقة المتجددة ليست رفاهية بيئية بل استثمار في الأمن القومي وسبيل لتخفيف الضغط على الموازنة العامة وطريق لتوفير وظائف ضخمة لجيل جديد يبحث عن فرصة حقيقية.
ولأن مصر بلد يعرف قدر أبنائه فإن هذا التحول لم يكن مجرد قرار اقتصادي بل رسالة: أن أبناء هذا الوطن يستحقون غدا أكثر نقاء وازدهارا. نحن أمام دولة لا تنتظر المستقبل بل تبنيه بيديها دولة قالت وفعلت ، وحلفت أنها لن تسمح بأن تظل منطقتها مجرد مستورد للتقدم.
إن ما يحدث اليوم في مصر يشكل نقلة تاريخية ليس فقط في قطاع الطاقة بل في قدرة الدولة على أن تقتحم مجالات كانت لفترة طويلة حكرا على الكبار. وهذه هي اللحظة التي يجب أن يلتفت إليها الجميع: مصر لم تعد تكتفي بأن تكون جزءا من خريطة الطاقة بل أصبحت أحد ملامحها.
في النهاية..
العالم يسير مسرعا نحو عصر جديد سباقه الأكبر على الطاقة النظيفة. والدول التي تتباطأ ستدفع ثمنا باهظا. أما مصر فقد اختارت الطريق الأصعب لكنه الأصدق: أن تكون في قلب المضمار تركض بثبات وتُمسك بيد أبنائها لتقول لهم: هذا وطن لا يترك أبناءه خلفه… وهذا مستقبل نصنعه بأقدام ثابتة وقلوب تؤمن بأن الغد يمكن أن يكون أفضل.


