ريم السباعي
ما أشد سكون هذه الليلة، فالهدوء يخيم على البيت، ولا صوت ولا حراك بالخارج، امسك صلاح جهاز التحكم عن بعد الخاص بتلفازه وراح يقلب في قنواته لعله يجد شيئًا يبدد هذا السكون، ولكن سرعان ما شعر بالملل فأغلقه، وما هي إلا لحظات حتى دق باب البيت، فهم صلاح ليفتح ليجد الطارق هو عبد الرحمن زميله في العمل وأعز أصدقائه، فدعاه إلى داخل البيت.
فقال عبد الرحمن بعد أن ألقى عليه تحية المساء: “أتجلس وحيدا؟” فقال صلاح: “نعم! إن زوجتي ذهبت لزيارة والدتها واصطحبت معها الأولاد، أخبرني أوجدت عملًا جديدًا؟! إنني أبحث عن عمل كل يوم ولم أجد، فمنذ وفاة المدير وإغلاق المصنع وأنا لا أعلم ما هو مصيرنا”، قال عبد الرحمن: “لقد أتيت لأخبرك بأن الوريث الوحيد للمصنع وهو ابن عم المدير رحمه الله قرر فتح المصنع ليعمل من جديد، ويريد أن يجتمع بجميع العاملين”.
قال صلاح: “كم كنت أتمنى أن أجد فرصة عمل في مكان أفضل منه ولكن ما العمل؟! سأحضر ذلك الإجتماع فهذا أفضل من البطالة”، قال عبد الرحمن: “أجل! بالتأكيد، على الرغم من أن الراتب ضئيل ولا يكفي لتلبية مطالب البيت”، قال صلاح: “إن المصنع خرب، فكل الآلات مستهلكة، والإنتاج ضئيل، والعاملين كسالى، حتى البناء نفسه متصدع، ألم يكن من الأفضل بيعه أو هدمه؟!” قال عبد الرحمن: “نعم! ولكن لعل الله كتب لنا فيه الرزق حتى لا يجوع أولادنا، فهذا القليل أفضل من لا شيء”.
في اليوم المحدد للاجتماع حضر المدير الجديد الذي كان كهلًا في عقده الخامس، أخبر العاملين بأنه سيقوم بتشغيل المصنع، وراح يحدثهم عن خطة التطوير التي وضعها لإصلاح المصنع، وزيادة الإنتاج، بالإضافة إلى الموضوع الذي اعتبره الحضور الأهم على الإطلاق ألا وهو أجور العاملين، فقد رفع أجر كل عامل إلى الضعف بالإضافة إلى تقديم السلع الأساسية بنسبة معينة بالمجان لكل فرد، ومن أراد المزيد من هذه السلع فعليه بدفع مبلغ زهيد مقابل ذلك.
انتهى الإجتماع وتضاربت الأقاويل حول المدير الجديد، فمنهم من رآه رجلًا صالحًا وستؤتي خطته ثمارها، ومنهم من رآه يتحدث كثيرًا ولن يفعل شيئًا، ولكنهم أجمعوا على أن زيادة الأجور هو أفضل عمل سيقوم به، ثم بدأ العمل في المصنع في اليوم التالي للاجتماع، وبدأ معه الإصلاح تدريجيًا، فتم ترميم البناء، وتجديد الآلات، وصيانة المعدات، وبالتالي زاد الإنتاج بشكل ملحوظ، وكلما زاد الإنتاج رفع المدير من أجور العاملين، وأضاف لهم سلعة جديدة يحصلون عليها بالمجان.
لكن دوام الحال من المحال، فعلى الرغم من الرخاء الذي دام على المصنع وعامليه قرابة عشرة أعوام إلا أن أزمة اقتصادية كبيرة باتت تهدده، مما جعل المدير يضع خطة جديدة للعمل، حتى تمر هذه الأزمة بسلام، فجاءت قراراته الخاصة بالعاملين بأن تبقى الأجور كما هي دون أي زيادة حتى إنتهاء الأزمة، وأن السلع التي كانت تقدم بالمجان ستقدم بمقابل زهيد، وبعد الخروج من الأزمة ستعود الأوضاع لما كانت عليه في السابق.
أثارت تلك القرارات غضب العاملين، فلقد رأى البعض بأن تلك القرارات ظالمة فما شأنهم هم بتلك الازمة؟! ولما تؤثر على حياتهم، وبينما رأى أخرون بأنهم بحاجة إلى زيادة الأجور لأنها لا تكفي احتياجاتهم، والحاجة تضعف القدرة على العمل، إذن فالأزمة لن تمر على هذا الوضع، بينما قام الباقين بالإضراب عن العمل حتى يرجع المدير عن قراراته، وخاصة القرار المتعلق بالسلع المجانية.
هكذا تبدلت الأحوال في ذلك المصنع، فلقد نسي أو تناسى عامليه الحقبة الماضية التي كان فيها المصنع خرب، كما نسوا أو تناسوا جهد المدير المبذول من أجل الأفضل، ويبقى السر الذى لا يعرفه أحد أو ربما كان عليهم استنتاجه بفطنة وذكاء أن المدير كان ينفق من ماله الخاص حتى يستمر إنتاج المصنع، وتتحسن معيشة العاملين، فيا لغرابة هذا الإنسان، عندما يكون ذليلًا يرضخ وعندما يكون عزيزا يتمرد.
نبذة عن الكاتبة:
ريم السباعي
أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا
حاصلة على ليسانس آداب في التاريخ من جامعة عين شمس عام 2005
صدر لها مجموعة قصصية بعنوان: رحالة في جزر العجائب
صدر لها رواية بعنوان: ويعود ليلقاها
للتواصل: